الجمعة، 25 يناير 2013




في مئوية العلامة محمود شاكر (1909-2009) :

أباطيل .. ولا أبا فهر لها !


معتز شكري*

عندما كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يفتقد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قضية يريد أن يستأنس برأيه فيها ، كان يقول : قضية ولا أبا حسن لها ! وبعد وفاة أبي بكر ، ومع حدوث أي ردة جديدة لا تجد من يواجهها بحسم كما فعل الصديق رضي الله عنه ، كان الناس يقولون : ردة ولا أبا بكر لها.
واليوم يطول الاستشهاد بأمثال هذه العبارات ، إذ لا نلبث أن نتحسر على حالنا ونحن نفتقد هؤلاء الأعلام الشوامخ في تاريخ الإسلام ، فهناك صليبيون ولا صلاح الدين لهم ، وتتار جدد ولا قطز لهم ، وعكا السليبة المقهورة ولا جزار لها ، وبقاع جديدة تقتطع من أرض فلسطين ومن قضيتها كل يوم ولا سلطان عبد الحميد لها !
ومع أن العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر ولد في الأول من فبراير سنة 1909 (العاشر من المحرم 1327)، فنحن نعتبر العام الحالي كله ذكرى مئوية له تستحق أن نظل خلال أيامها كلها وما بعدها أيضا نستروح نسماتها ونسترجع فيها مآثر ذلك الطود الشامخ من عمالقة مفكرينا وأدبائنا الأفذاذ.
ولن نكون معنيين في مقالنا هذا بسرد تفاصيل حياة أبي فهر رحمه الله ، فلدى القاريء العشرات من المصادر ، والعشرات من روابط الإنترنت ، يتعرف فيها على ملامح وقسمات هذه الحياة الخصبة الحافلة بالدراسات والمواقف المجيدة دفاعا عن الإسلام واللغة العربية والقيم النبيلة والثقافة الحقيقية لا المزيفة ، ولكن حسبنا هنا أن نقف موقف تحية سريعة في ذكراه ، مكتفين بنماذج من هذه المواقف.
لا أعتقد أن ثمة من يمكن أن يعتبر نفسه مثقفا في عالمنا العربي والإسلامي ويدعي ذلك بملء الفم ، مهما كان اتجاهه الفكري ، إذا لم يكن قد قرأ ثلاثة أعمال على الأقل من أعمال العلامة محمود شاكر : المتنبي – رسالة في الطريق إلى ثقافتنا – أباطيل وأسمار.
وإذا كان هناك من يترك بصمته من خلال كتابات وهناك من يفعل ذلك من خلال مواقف ، فقد اجتمعت المنقبتان للأستاذ شاكر ، فهذه الكتب الثلاثة التي ذكرناها هي في الوقت نفسه معارك ثلاثة مجيدة شهر فيها الأستاذ أسلحة الحق وقذائفه فدك بها قلاع الباطل وحصون الغزو الفكري. ويجوز أن نقول إنهما كتابان ، فقد وضع "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لتكون مقدمة لإحدى طبعات كتابه الخطير "المتنبي" ، ولكن لأهميتها الكبيرة تم طبعها لاحقا في كتاب مستقل.
وقد اتفق لي شيء غريب قبل أكثر من ربع قرن ، وكنت وقتها أتلقى دراسات عليا في الترجمة بجامعة القاهرة ، فقد كنت أقرأ بعض أعمال الدكتور لويس عوض ، بحكم تخصصي في الأدب الإنجليزي وبحكم الثقافة العامة ، كما كنت مكلفا من أستاذي الراحل إبراهيم زكي خورشيد ببحث نقدي عن ترجمة عوض لرواية أوسكار وايلد "صورة دوريان جراي" ، واقتنيت في ذلك الوقت نفسه سفر الأستاذ شاكر الضخم الماتع "أباطيل وأسمار" وشرعت في التهامه مستمتعا بكل صفحة ، بل بكل كلمة فيه ، ولم أكن بالطبع قد عاصرت المعركة الفكرية التي كانت وراء الكتاب ، إذ كنت صغير السن. فوجدتني وكأنني اقتنيت في بيتي وتحت سقف واحد مدرستين متصارعتين أو جيشين متقاتلين ، ولكن شتان ما هما ، مدرسة متهافتة للهدم وجيش أشبه بالطابور الخامس ، وفي المقابل مدرسة للبناء والحفاظ على القيم الاصيلة وجيش قوي مدعم بأسلحة الحق والمنطق الصارم.
وكنت أشعر -  مع إقراري بأن لويس عوض لا يخلو من فوائد في بعض كتبه في الأدب الإنجليزي والحضارة الأوروبية (ولكن بعيدا عن التراث العربي والقضايا الإسلامية) - أنني أنتقل من ضعف في اللغة وتهاو في المنطق وأنا أقرأ عوض الحاصل على الدكتوراه من الجامعات الإنجليزية العريقة إلى بنيان منيع شاهق من الأصالة والبلاغة والحجة وأنا اقرأ لشاكر الذي خرج طواعية من السنة الثانية بكلية الآداب رفضا منه لمناهج التدريس!
وكتاب الأستاذ شاكر تجميع لمقالاته في الرد على لويس عوض في الستينيات عندما أراد الكتابة عن أبي العلاء المعري من قبيل الفذلكة وادعاء الثقافة الواسعة في التراث العربي ، مع الحرص على هدم كل ما يظن أن بمقدوره هدمه من القيم العربية والإسلامية ، ولكنه لم يزد عن أن كشف عن جهل مطبق وغثاء فاضح فلم يفهم حتى النصوص التي يتعرض لها وقرأ قراءة تصحيف لأبيات المعري قافزا إلى استنتاجات غريبة مضحكة بأن المعري مثلا تتلمذ على رهبان نصارى في أحد الأديرة لأنه قرأ ما ظنه كلمة "الصلبان" فجاء شاكر ليقرعه تقريع أستاذ حازم لتلميذ خائب وليفهمه أن الكلمة هي "الصليان" وهو نبات صحراوي ولا علاقة للكلمة بصلبان سي عوض ، ولكن الغرض مرض!
وأنا أدعو كل قاريء إلى أن يبحث عن الكتاب في أي مكان ، حتى ولو اضطر للذهاب إلى المكتبات العامة ، فالكتاب أكبر من مجرد آثار معركة فكرية ، لأنه - شأن كل كتابات الاستاذ شاكر – يمسك بيد القاريء في رفق لكي يعيد تكوينه فكريا وذهنيا ويمحو آثار التلوث التعليمي والانحطاط الفكري في حياتنا الثقافية التي وصفها شاكر في زمنه هو بالفاسدة ، ولا أدري ماذا كان يقول لو عاش إلى زمننا هذا بعد 12 عاما من رحيله ؟ هل أستشهد بقول لبيد الشهير :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم     وبقيت في خلف كجلد الأجرب !

ولكن من الذي يعرف محمود شاكر من الأجيال الجديدة ، وبالذات ممن تربوا في أحضان المجالس الثقافية الحكومية التي تغمرها – حتى تعمى العيون - أنوار "المستنيرين" ؟! أو ممن يتلقون ثقافتنا من تلفاز الحكومة الذي هو على الأنفاس راكب والمحتفي فقط بكل مطرب وراقصة ولاعب ؟!

انظروا ماذا قال الأديب الكبير الأستاذ وديع فلسطين عن شاكر في رسالة له إلى صديق : " إن المرء لتعروه الدهشة إذ يرى هذه القمة المسماة محمود محمد شاكر خافية عن عيون مجتمعه إلا فيما يسيء ، وقليلة على محمود شاكر عضوية المجامع ،بل قليلة عليه جائزة التقدير ، ولكن لسان الحق الذي تنطق به العدول من الخلف ، في إلحاح إلى إنصاف هذا العالم الأستاذ الذي يجلس في محضره أكابر الباحثين وكأنهم من تلاميذه النجباء ، ويطمع كل منهم أن يحسب في عداد حوارييه".
رحم الله الأستاذ العلامة محمود شاكر ، أبا فهر ، صاحب "أباطيل وأسمار" و"المتنبي" ، ومحقق "تفسير الطبري" وصاحب القصيدة الفذة "القوس العذراء" ، وعضو مجمع اللغة العربية (1327-1418/1909-1997)، نجل الشيخ الجليل محمد شاكر وكيل الجامع الأزهر سابقا (1282-1358/1866-1939) وشقيق المحدث الكبير الشيخ أحمد شاكر ، أبي الاشبال وشمس الأئمة وعضو المحكمة العليا الشرعية سابقا ومحقق المسند (1309-1377/1892-1958).

والأن ، وقد كثرت الأباطيل في حياتنا المعاصرة ، أفلا نقول بملء الفم :

سلام عليك يا أبا فهر في ذكراك .. وعوضنا المولى عنك خيرا ، فكم من أباطيل الآن ولاأبا فهر لها !

* كاتب وباحث

Mutazz_shukri@yahoo.com

الجمعة، 16 مارس 2012



استمارة الجرائم الغامضة .. راكبة حمارة "مشلولة" !

بقلم : معتز شكري

هل تذكرون قصيدة الشاعر العبقري فؤاد حداد "الاستمارة راكبة الحمارة" ؟ إليكم

نص هذه القصيدة الساخرة حتى نتذكرها سويا ، وبعدها لنا كلام :


مسحراتي منقراتي

ع الطبله إيدي

ريشه ف دوايتي

اسمع ياسيدي

اسمع حكايتي

مع استماره

راكبه حماره

أول ماراحت

راحت لحسني

قالت ياحوستي

هو انت فاطر

قال كنت فاكر

مش حانسى تاني

خليك مكاني

الاستماره راكبه الحماره

راحت لفكري

قال تيجي باكر

وتروح لزكري

قال روح لشاكر

ولا  لشكري

شكري في اجازه

راحت لبهجت

لا حط ماذا

ولا سألها

أشر نقلها

راحت لهاني

خليك مكاني

هاني الطاطوري

قال فيما يبدو

حتروح لعبده

لازم ضروري

ضروري لازم

راحت لحازم

منه لتيفه

شاغلاه لطيفه

منه لمكتب

راجل مؤدب

ببدله بني

قال لي أظني

في تاني أوده

عند الموظف

أبو بدله سودا

بدله رصاصي

قال لا مؤاخذه

مش اختصاصي

سيدي لاظوغلي

خلص لي شغلي

في تاني طرقه

على شمالي

لبدله زرقا

شرحت حالي

قال ثانيه واحده

والاستماره

من يومها قاعده

راكبه الحماره

لو كنت راكب

ماكنتش اوصل

ولا أؤدي واجب

ولا أحصل

واطلع بلاشي

أحسن لي أفضل

على مهلي ماشي

المشي طاب لي والدق على طبلي

ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال

الرجل تدب مطرح ماتحب

وانا صنعتي مسحراتي في البلد جوال

حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال

انتهى النص ، والآن يأتي دور الكلام :

سوف نغلب حسن النية المفرط ، والسذاجة الشديدة ، ونفترض جدلا أن كل

علامات الاستفهام حول الجرائم "المفتوحة" التي لا تغلق أبدا مبالغ فيها ، وأن

كل المشكلة تكمن في الروتين والإجراءات ، وإذن فالمفترض في النهاية حتى مع

كل تلك البيروقراطية النكدة والروتين العقيم وكسل الموظفين الأزلي  ، وحتى مع

حسني اللي فاطر ، وفكري اللي مش فاكر ، وتيفه اللي شاغلاه لطيفة وأبو بدلة

رصاصي اللي بيقول مش اختصاصي ، إلخ ، أن تصل في النهاية هذه الاستمارة

المنكوبة مهما كانت الركوبة !

أما مشكلتنا الأزلية منذ الثورة فهي أن كل القضايا تفتح ولا تغلق بما يشفي الغليل

، أو بما يبرد قلوب المكلومين ، أو حتى بمنتهى البساطة لا تغلق أبدا ! هل لأنها

تصل إلى القضاء "منزوعة الأدلة" ؟! وهل هذه مسئولية النيابة أم أن هناك

جهات أخرى في الدولة لا تتعاون ولا تزود النيابة بالأدلة الموثقة ؟ هل لأنها

"تتوه" في الروتين والإجراءات ؟ أم لأن الحمارة اللي شايلة الاستمارة اتضح

أخيرا أنها حمارة "مشلولة" أصلا وبالتالي فهي في الحقيقة لم تبرح مكانها ! ،

وأننا كنا نتوهم أنها بطيئة صحيح ولكن في النهاية ستصل إلى بر الأمان المنشود

، فإذا بصرنا كليل وفهمنا قليل وحظنا بائس وأملنا يائس !

أقول هذا بمناسبة إحالة النيابة العامة ل75 متهما للمحاكمة في مجزرة بورسعيد

التي راح ضحيتها 75 شهيدا (شوف الصدف في الأرقام !) ، فإذا

المتهمون الرئيسيون هم مدير الأمن وشوية ضباط واضح أن الاتهام ضدهم

ينصب على "التقصير" في اتخاذ الإجراءات الأمنية التي كان من شأنها أن تحول

دون وقوع المجزرة ، وليس على أنهم هم أنفسهم "القتلة" ، طيب أين "القتلة"

الذين ألقوا بالناس من المدرجات إلى أرض الملعب ، بما فيهم رجال وشباب

وأطفال ونساء حوامل ، وذبحوا البعض ببلط وسكاكين ، وخنقوا البعض بجنازير

حديدية ، وحرقوا آخرين ، وأين الذين فتحوا بابا معينا ليخرج منه القتلة

المحترفون المدربون المأجورون وأغلقوا بابا آخر ليتكدس أمامه الضحايا

ويموتوا تحت الأقدام واندفاع وتراكم الأجسام ؟ وأين الذين أطفأوا الأنوار ؟ ومن

دفع للقتلة ؟ ومن نقلهم بالعشرات أو بالمئات لارتكاب المجزرة وحماهم حتى

تبخروا كأنهم فص ملح وذاب ؟

سيقول البعض : لماذا تتعجل .. ولماذا لا تترك للقضاء الفرصة لبحث القضية ..

هل تريد استباق الأمور أو تقويض أسس العدالة ؟ هل تريد الزج بأبرياء

واتخاذهم كباش فداء ؟ أليس في البلد مؤسسات يا رجل ؟! (على طريقة فيصل

القاسم !)

ولأنني مفقوع المرارة فسوف لا أرد بكلام مني حتى لا أحرق دمي ، وسأستعمل

ما يرد على خاطري في هذا السياق من الأقوال المأثورة والأمثال الفصيحة

والشعبية ، وأبيات الشعر الخالدة ، والكلمات التاريخية لبعض زعمائنا الراحلين ،

وكليشيهات بعض رموزنا الحاليين ، وكلمات من أعمال فنية ، ربما يبدو

الاستشهاد ببعضها غامضا ، وربما يتناقض بعضها مع بعض ، لا بأس .. ،

وليختر كل منا ما يناسبه ، ومع كون معظمها محبطا ، فأرجو أن يبعث آخرها
على الأمل :

-         لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين !

-         كيف أعاودك وهذا أثر فأسك ؟!

-         إن كنتم نسيتم اللي جرى هاتوا الدفاتر تنقرا !

-         وراء الأكمة ما وراءها !

-         كله بالقانون !

-         الديمقراطية لها أنياب وأظافر !

-         كبابك ما جاني ودخانك عماني !

-         يا قوم لا تتكلموا   إن الكلام محرم

-         ناموا ولا تستيقظوا  ما فاز إلا النوم

-         أما السياسة فاتركوا   أبدا وإلا تندموا !

-         العاقل من اتعظ بغيره !

-         لا تلم كفي إذا السيف نبا    صح مني العزم والدهر أبى !

-         المنحوس منحوس ولو علقوا على بابه فانوس !

-         دولة الظلم ساعة ، ودولة العدل إلى قيام الساعة !

-         لك يوم يا ظالم !

-         أروح لمين وأقول يا مين ينصفني منك !

-         تعظيم سلام لأرواح الشهداء !

-         وبناء عليه .. لن نتنكر لدماء الشهداء !

-         بما لا يخالف شرع الله .. سوف نحقق أمل الشعب فينا !

-         مصر لن تركع !

-         وإذن ، تبدأ على الفور إجراءات سحب الثقة من الحكومة !

-         يا قلبي يا كتاكت يا ما انت مليان وساكت !

-         النهارده قهر وبكرة قهر والعمر كله كام شهر ؟!

-         الأرض التي تروى بالدماء لا تنبت الزهور !

-         ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا    ويأتيك بالأخبار من لم تزود !

-         أهو ده اللي صار وآدي اللي كان .. مالكش حق تلوم عليا

-         تلوم عليا إزاي يا سيدنا   وخير بلادنا ماهوش ف إيدنا ؟

-         قول لي عن أشياء تفيدنا  وبعدها ابقى لوم عليا !

-         مين معايا ؟ - إحنا عصابة اللهو الخفي !

-         اسلمي يا مصر  إنني الفدا    ذي يدي إن مدت الدنيا يدا

-         أبدا لن تستكيني أبدا         إنني أرجو مع اليوم غدا

-         مرة أخرى : أبدا لن تستكيني أبدا   إنني أرجو مع اليوم غدا

-         للمرة المليون : أبدا لن تستكيني أبدا   إنني أرجو مع اليوم غدا

وهل هناك ما هو خير من كلام الله تعالى يمنحنا الأمل وينزل بردا وسلاما على

قلوب أهالي الشهداء والمصابين ، وعلى قلوبنا نحن جموع المصريين ، بعد أن

صرنا جميعا "مستضعفين" نشكو إليه سبحانه ضعف قوتنا وقلة وحيلتنا وهواننا

على الناس :

"ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم

الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا

يحذرون" (القصص – 5 و 6)

" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء

والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر

الله قريب" (البقرة -  214)

صدق الله العظيم.

اللهم ارحم شهداءنا واقتص أنت يا قوي يا عزيز بحولك وقوتك ممن قتلهم غدرا

وغيلة ، فإنك سبحانك تمهل ولا تهمل. آمين.

انتهى الكلام.




الأربعاء، 7 مارس 2012

كلمات من قاموس الأجداد


كلمات من قاموس الأجداد : بحوث في العامية التاريخية في مصر (1)

بقلم : معتز شكري

تقديم :

هذه بحوث فيما يسمى علميا في الدراسات اللغوية المتخصصة ب"العامية التاريخية" Historical Slang ، أنشرها في مدونتي هذه حتى تسهم هي وغيرها في رفع درجة الوعي والارتقاء بثقافة زوار المدونة من مصريين وعرب في جميع مجالات الثقافة والعلوم ، ومنها الدراسات اللغوية.

وفي هذه البحوث نقوم بالتطبيق على اللهجة العامية المصرية المعاصرة ، ورصد ما بقي فيها من آثار نادرة لألفاظ وتعبيرات اندثرت أو كادت من الاستعمال اللغوي المعاصر ، ونلقي الضوء على نماذج من هذه الكلمات ، بتحليل اشتقاقها وأصولها ودلالتها ، وما تعكسه من حياة قديمة كانت لها طبيعة اجتماعية مختلفة عن حياتنا المعاصرة ، وما توفره لنا أيضا من معلومات عن احتكاك ثقافتنا في مصر في القرون السابقة بثقافات أخرى مما انعكس فيما استقته لغة المصريين واقترضته على مدى العصور من ألفاظ وتعابير من لغات أخرى ، منها مثلا التركية والفارسية والإنجليزية والفرنسية واليونانية والإيطالية ، إلخ ، علاوة على ما جرى تحريفه أو تغيير معناه من كلمات اللغة العربية نفسها ، أو مما بقي في لغتنا حتى الآن من اللغة المصرية القديمة أو القبطية ، وهكذا.

ونورد في بحوثنا هذه – التي تعمدنا فيها أن تخرج بأسلوب مبسط لتقريب هذه المعلومات اللغوية للناس وتبسيطها لكل فئاتهم ، وتحبيبهم في علوم اللغة وحثهم على الوعي بها ، شواهد على استعمالها ، سواء في بعض الكتابات أو المأثورات اللفظية أو الأعمال الفنية والفولكلورية.

ويدل ذلك كله ، ليس فقط على أن اللغة – أي لغة – هي كائن حي ، كما يفهم معظم الناس الآن ، ولكن أيضا على أن كل لفظ من ألفاظ اللغة هو في ذاته "كائن حي" كذلك ، قد ينمو ويزدهر ويعيش أزمانا ممتدة وقرونا متطاولة في عافية ورونق ، مبدلا ثيابه وهيئته أحيانا ، وقد يصيبه الضعف والوهن والهزال أحيانا اخرى ، وقد ينطوي وينزوي بعيدا عن ألسنة الناس وأقلامهم ، بل وقد يندثر ويموت تماما ولا يبقى له مثل أي ميت من الكائنات إلا أن يدفن باعتبار أن "إكرام الميت دفنه" ! ولكنه يبقى دائما أفضل حظا من البشر حينما يموتون ويدفنون في المقابر وتبلى عظامهم ، فالكلمات المندثرة عندما تموت تدفن في بطون المعاجم التاريخية وبين صفحات المصادر العلمية وكتب البحوث اللغوية ، فكأنها إذ تموت على ألسنة الناس تعود وتحيا بين الباحثين والعلماء !

وليس في مصر للأسف ، بل ولا في العالم العربي كله ، اهتمام لائق بهذا الفرع من الدراسات اللغوية يماثل نظيره على نفس المستوى في لغات الغرب المتقدم ، ففيما عدا كتابات المتخصصين من باحثي اللغة وعلمائها والمجمعيين وبعض الأدباء وهواة اللغة ، وهي قليلة ، لا نجد وعيا كافيا ولا اعتناء وافيا بهذا المجال ، ولا حتى من جانب المجلات الأدبية والثقافية ، بل نجد العكس تماما وهو أن كثيرا من البرامج التي تتعرض لهذه الكلمات من باب التفكهة والتسلية ليس إلا ، تتورط في معلومات خاطئة ومضللة تسوقها للجمهور ، لأن أغلب القائمين على تلك البرامج والمعدين لها ليست لديهم أصلا هذه الثقافة وكثيرا ما يستقون مادة برامجهم من الشائع والمستقر حتى ولو كان على غير أساس علمي ، وكثيرا ما يبدأ شخص ما سرد معلومة غير صحيحة في صحيفة أو برنامج حتى يسير وراءه الباقون في سياق ما يعرف في الفلسفة ب"غريزة القطيع" أو Instinct of the Herd وهي آفة مدمرة من آفات المناهج غير العلمية.

وهذه الطائفة من الكلمات – أي المنتمية إلى العامية التاريخية ، والتي إذا شئنا ذكر نموذجين اثنين فحسب من باحثيها الكبار عندنا وفي الغرب ، لم نتردد في ذكر الأستاذ الدكتور البدراوي زهران عندنا والعلامة البروفيسور إيريك بارتردج Eric Partridge في اللغة الإنجليزية - أنها لم تعد تستخدم في اللغة المحكية المعاصرة إلا في سياقات بعينها سوف نذكرها في حينها ، وأنها باستثناء أصحاب الأعمار الكبيرة من آباء وأجداد ، أو الباحثين اللغويين المتخصصين ، لا تستعملها الأجيال الشابة والصغيرة مطلقا بل لا تكاد تفهمها ، إلا إذا صادفتها في مشاهدتها لمسرحيات مسجلة أو أفلام قديمة عبر التليفزيون وعندئذ تبادر في جو من الفضول المصحوب بالسخرية والدهشة بالاستفهام عن معناها من الكبار وبالذات الأجداد ، متسائلة ضاحكة : ما معنى هذه الكلمة الغريبة يا جدي ، أو يا جدتي ؟!

وشاء حظ هذه الكلمة التي معنا اليوم أن تكون هي التي نبدأ بها نشر هذه البحوث في هذا الموقع الأغر ، وإن كانت قد سبقت لنا دراسات عن عشرات من الكلمات الأخرى سوف نضعها في خطة النشر تباعا.

وسوف يكون منهجنا دائما أن نورد أولا الاقتباس أو الاستشهاد الذي اخترناه من المصادر المختلفة – المسموعة والمقروءة – وترد فيه وفي أمثاله هذه الكلمة ، وهو ما يطلق عليه علميا "الشاهد" – وجمعه "شواهد" – أو Citations ، سواء كان كتابة قديمة أغنية أو جزءا من حوار عمل فني أو عبارة يستعملها شخص مسن ، إلخ ، حتى نضع أنفسنا موضع القاريء أو السامع للكلمة وهو يندهش منها ويتساءل عن معناها ، ويفيد الشاهد كذلك في تحديد السياق الذي تأتي فيه الكلمة ، ثم نشرع بعد ذلك مباشرة في شرح المعنى وبحث الأصل والاشتقاق وكل ما يعن لنا من تعليقات وملاحظات عن الكلمة بعد الرجوع لكل المصادر الممكنة.

وسوف نسعى دائما إلى ألا يقتصر حديثنا على مجرد شرح معاني هذه الألفاظ وبيان اشتقاقها الاصلي وسياق دخولها إلى اللهجة المصرية ، بل يشمل أيضا في ثنايا المناقشة طرح كثير من القوانين والظواهر التي يرصدها الباحثون وراء الاستعمال اللغوي عموما ، ووراء التطور الدلالي أوالصوتي خصوصا ، وكذلك ما يفسر السلوك اللغوي بوجه عام ، مما يندرج أيضا في مجال بحث علم اللغة الاجتماعي Socio-Linguistics.

ونحن نرجو أن يتاح لنا – من وقت لآخر - استكمال هذه السلسلة من البحوث التطبيقية في مجال أصول الكلمات Etymology – وهو المجال الأثير لدى كاتب هذه السطور - وإعادة نشرها على نطاق واسع بحيث تكون مصدر فائدة وإمتاع للقراء وهواة اللغة والأدب والتاريخ عموما ، وللباحثين في علوم اللغة خصوصا.
 
( 1 ) أنشته أو أنشطه :


-        لا يحلو لها الحديث إلا مع أنشته.
-        وأنشته في تلك الأثناء يزداد إعزازا لها ، والتفاتا إليها. ويعاملها كما لو كانت أختا لزوجه أو بنتا له.
-        وعاد أنشته آخر الأمر ليجد الفتاة التي طالما آنست روحه ، وخففت وحدته وسرت الكآبة عن بيته ، توشك أن تتقدم بكل هذه النعم إلى غيره ، فقال هنيئا للفتى وهنأ ألطاف من كل قلبه.

(المصدر : كتاب "عبرات وبسمات" تأليف محمود إبراهيم الدسوقي ، القاهرة ، 1945)

هذه الكلمة – وإن كان نطقها المسموع يجعلها أقرب إلى أن تنطق بالطاء "أنشطه" لا بالتاء - نموذج جيد جدا لتلك الطائفة من ألفاظ العامية التاريخية في مصر ، مما ظل مستعملا في المجتمع المصري ومفهوما ومتداولا حتى عقود قريبة ، قبل أن يبدأ في الاندثار تماما وينزوي من رحاب اللغة العامة المستخدمة إلى بطون الكتب القديمة وصفحات معاجم العامية وبحوثها.

ولئن كانت ثمة كلمات أخر قيد الاستعمال مع كلمة (أنشته) في السياق نفسه ، سياق أشكال الخطاب Forms of Address أي الكلمات التي ينادى بها أقرباء معينون داخل الأسرة ، فإنها الوحيدة تقريبا التي ضعف استعمالها شيئا فشيئا إلى أن اندثرت تماما تقريبا فلا يكاد يعرفها أو يفهمها أحد من الأجيال الشابة ممن هم اليوم في الثلاثين أو دون ذلك ، مع أنهم لا يزالون يفهمون كلمات أخرى من قريبات هذه اللفظة – إذا صح التعبير – بل وربما يستعملون بعضها أيضا ، مثل (أبيه) للأخ الأكبر ومن في حكمه ، ومثل (أبله) للأخت الكبرى ومن في حكمها ، وبالذات للمعلمة ، و(نينه) للجدة ، بل ويفهمون حتى لفظة مندثرة تماما مثل (تيزه) التي كانت كذلك تنادى بها الجدة أو من في حكمها حتى ولو لم يستعملوها ، وجميع تلك الكلمات بالمناسبة : أبيه – أبله – نينه – تيزه ، هي من أصل تركي مثل (أنشته) ! وهذا يعكس قدر تأثر المصريين بالأتراك ولغتهم على مدى نحو خمسة قرون – أي لقرن آخر إضافي بعد انتهاء الحكم العثماني لمصر - حتى في لغة الكلام داخل الأسرة وعلى المستوى الاجتماعي.

وفي الشاهد الذي اخترناه ، أو بالأحرى مجموع الشواهد من مصدر واحد ، وهو قصة قصيرة بعنوان (ألطاف) ، ضمن مجموعة من القصص والفصول الأدبية المؤلفة والمترجمة بقلم الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي ، أحد أدباء النصف الأول من القرن العشرين ، بعنوان (عبرات وبسمات – على وجه الإنسانية) والصادرة عام 1945 ، نجد أن (ألطاف) هذه هي "ابنة عم زوجة" بطل القصة ، وبالتالي فهو بالنسبة لها "زوج ابنة عمها". وسوف نرى من تحليل معنى الكلمة وأصلها واستعمالاتها في العامية المصرية حتى بضعة عقود خلت أن دائرة استعمالها كانت إذن تتسع لتشمل من هو في حكم "أنشته" ، وليس بالضرورة من تنطبق عليه الكلمة مباشرة ! ونلاحظ أن المؤلف وهو يستعمل الكلمة سنة 1945 لا يجد نفسه مضطرا لشرحها أو لوضعها بين أقواس مثلما نفعل نحن الآن في سنة 2012 ، مما يدل دلالة واضحة على أنه حتى ذلك الحين ، بل وبعده أيضا بنحو عشر سنين أو عشرين سنة ، كانت الكلمة لا تزال قيد الاستعمال ولم تندثر بعد ، وأن الاندثار يمكن رصده بدأ من أواخر الستينيات من القرن العشرين.

وحتى يتضح للقراء ، ولاسيما إخواننا العرب من غير المصريين ، أن كلمات مخاطبة الأقارب تطورت في المجتمع المصري ، بحيث اندثرت أو كادت معظم الكلمات ذات الأصل التركي وحل محلها كلمات من أصل إنجليزي أو فرنسي ، بحكم نعرة الثقافة الأوروبية ، نورد فيما يلي مقطعا صغيرا لقصة حديثة جدا كتبتها الأديبة المصرية المعروفة سناء البيسي في الأهرام بتاريخ 12 مارس 2011 ، بعنوان "دادي حرامي" وسيجد فيها القاريء كما من هذه الألفاظ ذات الأصل الاوروبي ، منها "دادي" و"مامي" و"طانت" ، باستثناء كلمة "دادة" فقط وهي من أصل تركي أيضا :

"سحبتني الدادة السيريلانكية عنوة من ذراعي النحيل لتصعد بي الدرجات الرخامية لتزج بي غصبا عني داخل غرفتي وتغلق الباب بالمفتاح في الدور العلوي من قصرنا الجديد بعدما تفهمت إشارة طانت ريري لها بأخذي بعيدا عما يدور من أحداث المشهد الدرامي الذي كنت قد تابعت أولياته في الصالون الكبير وقت أن كان الجميع في هرج ومرج منشغلين عني بما يبديه دادي من توسلات للضباط – الذين حضروا مع الصباح لأخذه معهم – كي يمنحوه لحظات يغير فيها هدومه ويضع في قدميه الحذاء ، وكان ساعتها لم يزل يرتدي الروب دي شامبر فوق البيجاما مع المنتوفلي .. وعندما مزقت أذني صرخة مامي ونشيج جدتي المرتفع وتأوهات طانت ريري شعرت بذروة المأساة... إلخ"

نعود لكلمة (أنشته) ، ونلاحظ عند مراجعة المصادر ذات الصلة أنه في حين يغفلها تماما سقراط اسبيرو في معجمه الرائد في مجاله وهو (قاموس اللهجة العامية المصرية) الصادر في القاهرة سنة 1895 ، وكذلك سقطت من حسابات العلامة أحمد تيمور في (معجمه الكبير) ، والدكتور أحمد عيسى في تحفته الرائدة (المحكم في أصول الكلمات العامية) ، وفاتت على الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد متولي في مؤلفه القيم الممتاز (الألفاظ التركية في اللهجات العربية وفي لغة الكتابة) ، فإن (معجم اللغة العربية المصرية) لمؤلفيه الدكتور السعيد بدوي الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة والمستعرب مارتن هايندس البروفيسور بجامعة كمبردج ، والصادر بالقاهرة 1986 ، وهو الأكثر انضباطا من الناحية العلمية حتى الآن على الإطلاق ، يوردها في حرف الألف ويصنفها بأنها Obsolete أي "مندثرة" ، ويعرفها بما ترجمته : أنشته : كلمة لمخاطبة – أو للإشارة إلى – زوج الأخت ، ويضيف بين قوسين أن الكلمة (تستخدمها النساء). ويرصد الكلمة كذلك (معجم فرج للعامية المصرية) تأليف المهندس سامح فرج ، الصادر بالقاهرة 2006 ، ويضيف أنها لم تسمع منذ منتصف العقد الخامس من القرن العشرين. و(معجم فرج) بالمناسبة من أفضل معاجم العامية المصرية الصادرة في العقود الأخيرة. ويلفت نظرنا أن كثيرا من مؤلفي أمثال هذه المعاجم ليسوا بالضرورة من المتخصصين في العلوم اللغوية ، وإن كان يجمع بينهم جميعا الاهتمام بهذا المجال والقراءة العميقة في مصادره والرصد الدؤوب للهجة العامية وظواهرها وشواهدها.

ولكن القاموس التركي الإنجليزي A Turkish – English Dictionary   من تأليف العلامة هوني H. C. Hony  - وهو من أفضل المعاجم على الإطلاق في مجاله والصادر عن (أوكسفورد) سنة 1956 ، يضفي نوعا من الدقة إلى التعريف ، فينص على أن كلمة (أنشته) – وبالتركية الحديث Eniste - لا تعني فقط زوج الأخت ، ولكن أيضا زوج العمة أو الخالة. وهو لا يقصرها على أنها (أداة للمخاطبة) ، ولكن يجعلها كلمة تعريف أيضا ، بمعنى أن الناس كانوا يقولون مثلا "أنشته جاء أو ذهب أو فعل كذا" – أي زوج أختي أو زوج خالتي أو عمتي – وليس فقط عندما يخاطبونه "يا أنشته ".

كما أن المعجم التركي لا يضع ذلك القيد المتمثل في أن الكلمة تستعملها النساء فحسب ، وإن كنا نخمن أنه سكت عن ذلك من باب الاختصار فقط ، لأن الذي لاحظناه – إذا اعتبرنا أنفسنا "مصادر حية" Informants لرصد اللغة العامية المصرية المعاصرة ، لا مجرد باحثين يدرسونها من الخارج دون أية صلة مباشرة بها كما هو الشأن مع المستعربين – هو أن هذه الكلمة بالذات لم نسمعها تقريبا ، حينما كنا نسمعها أحيانا في صبانا ، إلا من نساء ، فلا يذكر أحد أن رجلا أو صبيا أو شابا كان يتحدث عن زوج أخته أو زوج عمته أو خالته أو يناديه بلفظ (أنشته) ، اللهم إلا إذا وضعنا فرضية محتملة مهما كانت ضعيفة هي أنها اكتسبت هذا القيد في الاستعمال في البيئة المصرية فقط دون أن يكون لصيقا بالكلمة ذاتها في التركية ، وهو أمر إن صح يفتقد الدليل عليه.

وإذا لم يصح ، فقد دخلت الكلمة بسياقها الأصلي في الاستخدام بأن اقتصر استعمالها – في الأغلب الأعم – على فتيات أو نساء دون الرجال ، وهو أمر مشاهد ومسموع وملحوظ رصدته دراسات لغوية كثيرة في الغرب ، وقليلة عندنا ، منها دراسة لي في جزأين كتبتهما بأسلوب تبسيط العلوم اللغوية ،  وجعلت عنوان جزئه الأول : "عزيزتي حواء أنت تتكلمين لغة أخرى" ، وعنوان جزئه الثاني : "سر العداء بين اللغة والنساء". وخلاصة الأمر أن ثمة فروقا أسلوبية رصدها الباحثون بين بعض ما تتسم به لغة النساء وبعض ما يختص به أسلوب الرجال في الكلام ، والموضوع لا علاقة له بأي عنصرية ، ولكن بطبيعة كل جنس سيكولوجيا وسوسيولوجيا ، أي من الناحيتين النفسية والاجتماعية ، ولا يشمل كل مجالات اللغة بالطبع وإلا لما فهم الرجال عن النساء ولا النساء عن الرجال شيئا ، ولكن في نواح معينة.

وعلى كل حال ، فالكلمة إذن دخلت العامية المصرية المستعملة ، منذ قرون أثناء خضوع مصر للحكم العثماني ، سواء مباشرة كما في العهود الأولى منذ القرن السادس عشر الميلادي ، وتحديدا 1517 ، أو بعد ذلك بطريقة غير مباشرة عندما كانت السلطة موزعة بين الباشا العثماني والأمراء المماليك ، ثم حتى في القرن التاسع عشر تحت حكم الأسرة العلوية التي استقلت فعليا عن الحكم العثماني إلا اسميا فحسب ، لأن لغة الإدارة في عمومها ولغة هؤلاء جميعا كانت التركية العثمانية ، فكان أن تسرب منها الشيء الكثير إلى لغة المصريين بصفة عامة ، فتأثرت لهجتهم كأمر طبيعي وبحكم المخالطة اليومية بعدد لا بأس به من الألفاظ التركية ، وكانت مما دخل إلى المجال الاجتماعي ، بينما دخلت ألفاظ أخرى إلى مجالات أخرى ، مثل المجال العسكري أو السياسي أو الصناعي أو الثقافي أو الإداري أو الاقتصادي والتجاري ، وهكذا.

 ثم انتقلت الكلمة بعد ذلك ، ومؤخرا فقط أي في حدود الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة ، من (الاستعمال الحي) Current Usage إلى (العامية التاريخية لمصر) Historical Slang of Egypt.

 وكما يحدث مع كل ألفاظ العامية التاريخية تقريبا ، لا يكتب للكلمة المندثرة أي بقاء في اللغة المحكية الشائعة والمستخدمة ، اللهم إلا في السياق العلمي (كما في دراستنا هذه ودراسات اللغة) ، أو في السياق التاريخي (كأن تأتي في سياق كتابة قديمة أو مأثور شفهي ينتمي إلى العصر الذي كانت تستعمل فيه كما في القصة التي أوردنا شواهد منها والمكتوبة سنة 1945) ، أو في سياق معاصر ضاحك أو فكاهي (مثل استخدامها الآن بصورة ساخرة لغرض إثارة الضحك ، كما يفعل الساخرون – سواء في الأعمال الفنية والدرامية أو في لغة الدردشة Colloquial وهم يستعملون – الآن – كلمات وعبارات مثل "الفرنجة" و "ثكلتك أمك!" و"يا قوم !" في إطار يستدعي الضحك فقط لعنصر المفاجأة في الخروج غير  المتوقع من لغة معاصرة إلى لغة قديمة). وهذا يحدث مع كل اللغات المعاصرة لا مع العربية المعاصرة فقط ، ففي الإنجليزية مثلا يصفون مثل ذلك الاستعمال المعاصر لكلمة مندثرة Obsolete أو ِArchaic بأنه استعمال فكاهي Humorous.

من المهم أيضا ، ونحن نختتم حديثنا هذا في تحليل كلمة (أنشته) ، أن نعرف أن هناك ما يشير إلى أن الكلمة باقية في الاستعمال في التركية الحديثة بنفس المعنى ، ففي (معجم الطلاب تركي-عربي) – على سبيل المثال من تأليف توني حيدر وروبي حيدر ، والصادر عن دار الكتب العلمية ببيروت سنة 2004 ، ويورد ألفاظ "التركية المعاصرة" ، نجد أن الكلمة موجودة وإن كان المعنى أكثر اتساعا وهو (صهر) أو (نسيب) !

ولهذه البحوث تكملة وحلقات أخرى إن شاء الله ، نعرض فيها بالبحث والمناقشة والتحليل لكلمات أخرى كثيرة مما لم يعد ضمن قاموس حياتنا المعاصرة ، ولكنه باق فقط في "قاموس الأجداد".

رحم الله الأجداد ، وعاشت لغتنا العربية العريقة ولهجتنا المصرية الجميلة..

واسلمي يا مصر