في مئوية العلامة محمود شاكر (1909-2009) :
أباطيل .. ولا أبا
فهر لها !
معتز شكري*
عندما كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يفتقد سيدنا علي
بن أبي طالب رضي الله عنه في قضية يريد أن يستأنس برأيه فيها ، كان يقول : قضية
ولا أبا حسن لها ! وبعد وفاة أبي بكر ، ومع حدوث أي ردة جديدة لا تجد من يواجهها
بحسم كما فعل الصديق رضي الله عنه ، كان الناس يقولون : ردة ولا أبا بكر لها.
واليوم يطول الاستشهاد بأمثال هذه العبارات ، إذ لا نلبث
أن نتحسر على حالنا ونحن نفتقد هؤلاء الأعلام الشوامخ في تاريخ الإسلام ، فهناك
صليبيون ولا صلاح الدين لهم ، وتتار جدد ولا قطز لهم ، وعكا السليبة المقهورة ولا
جزار لها ، وبقاع جديدة تقتطع من أرض فلسطين ومن قضيتها كل يوم ولا سلطان عبد
الحميد لها !
ومع أن العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر ولد في الأول من
فبراير سنة 1909 (العاشر من المحرم 1327)، فنحن نعتبر العام الحالي كله ذكرى مئوية
له تستحق أن نظل خلال أيامها كلها وما بعدها أيضا نستروح نسماتها ونسترجع فيها
مآثر ذلك الطود الشامخ من عمالقة مفكرينا وأدبائنا الأفذاذ.
ولن نكون معنيين في مقالنا هذا بسرد تفاصيل حياة أبي فهر
رحمه الله ، فلدى القاريء العشرات من المصادر ، والعشرات من روابط الإنترنت ،
يتعرف فيها على ملامح وقسمات هذه الحياة الخصبة الحافلة بالدراسات والمواقف
المجيدة دفاعا عن الإسلام واللغة العربية والقيم النبيلة والثقافة الحقيقية لا
المزيفة ، ولكن حسبنا هنا أن نقف موقف تحية سريعة في ذكراه ، مكتفين بنماذج من هذه
المواقف.
لا أعتقد أن ثمة من يمكن أن يعتبر نفسه مثقفا في عالمنا
العربي والإسلامي ويدعي ذلك بملء الفم ، مهما كان اتجاهه الفكري ، إذا لم يكن قد
قرأ ثلاثة أعمال على الأقل من أعمال العلامة محمود شاكر : المتنبي – رسالة في
الطريق إلى ثقافتنا – أباطيل وأسمار.
وإذا كان هناك من يترك بصمته من خلال كتابات وهناك من
يفعل ذلك من خلال مواقف ، فقد اجتمعت المنقبتان للأستاذ شاكر ، فهذه الكتب الثلاثة
التي ذكرناها هي في الوقت نفسه معارك ثلاثة مجيدة شهر فيها الأستاذ أسلحة الحق
وقذائفه فدك بها قلاع الباطل وحصون الغزو الفكري. ويجوز أن نقول إنهما كتابان ،
فقد وضع "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لتكون مقدمة لإحدى طبعات كتابه
الخطير "المتنبي" ، ولكن لأهميتها الكبيرة تم طبعها لاحقا في كتاب
مستقل.
وقد اتفق لي شيء غريب قبل أكثر من ربع قرن ، وكنت وقتها
أتلقى دراسات عليا في الترجمة بجامعة القاهرة ، فقد كنت أقرأ بعض أعمال الدكتور
لويس عوض ، بحكم تخصصي في الأدب الإنجليزي وبحكم الثقافة العامة ، كما كنت مكلفا من
أستاذي الراحل إبراهيم زكي خورشيد ببحث نقدي عن ترجمة عوض لرواية أوسكار وايلد
"صورة دوريان جراي" ، واقتنيت في ذلك الوقت نفسه سفر الأستاذ شاكر الضخم
الماتع "أباطيل وأسمار" وشرعت في التهامه مستمتعا بكل صفحة ، بل بكل
كلمة فيه ، ولم أكن بالطبع قد عاصرت المعركة الفكرية التي كانت وراء الكتاب ، إذ
كنت صغير السن. فوجدتني وكأنني اقتنيت في بيتي وتحت سقف واحد مدرستين متصارعتين أو
جيشين متقاتلين ، ولكن شتان ما هما ، مدرسة متهافتة للهدم وجيش أشبه بالطابور
الخامس ، وفي المقابل مدرسة للبناء والحفاظ على القيم الاصيلة وجيش قوي مدعم
بأسلحة الحق والمنطق الصارم.
وكنت أشعر - مع
إقراري بأن لويس عوض لا يخلو من فوائد في بعض كتبه في الأدب الإنجليزي والحضارة
الأوروبية (ولكن بعيدا عن التراث العربي والقضايا الإسلامية) - أنني أنتقل من ضعف
في اللغة وتهاو في المنطق وأنا أقرأ عوض الحاصل على الدكتوراه من الجامعات
الإنجليزية العريقة إلى بنيان منيع شاهق من الأصالة والبلاغة والحجة وأنا اقرأ
لشاكر الذي خرج طواعية من السنة الثانية بكلية الآداب رفضا منه لمناهج التدريس!
وكتاب الأستاذ شاكر تجميع لمقالاته في الرد على لويس عوض
في الستينيات عندما أراد الكتابة عن أبي العلاء المعري من قبيل الفذلكة وادعاء
الثقافة الواسعة في التراث العربي ، مع الحرص على هدم كل ما يظن أن بمقدوره هدمه
من القيم العربية والإسلامية ، ولكنه لم يزد عن أن كشف عن جهل مطبق وغثاء فاضح فلم
يفهم حتى النصوص التي يتعرض لها وقرأ قراءة تصحيف لأبيات المعري قافزا إلى
استنتاجات غريبة مضحكة بأن المعري مثلا تتلمذ على رهبان نصارى في أحد الأديرة لأنه
قرأ ما ظنه كلمة "الصلبان" فجاء شاكر ليقرعه تقريع أستاذ حازم لتلميذ
خائب وليفهمه أن الكلمة هي "الصليان" وهو نبات صحراوي ولا علاقة للكلمة
بصلبان سي عوض ، ولكن الغرض مرض!
وأنا أدعو كل قاريء إلى أن يبحث عن الكتاب في أي مكان ،
حتى ولو اضطر للذهاب إلى المكتبات العامة ، فالكتاب أكبر من مجرد آثار معركة فكرية
، لأنه - شأن كل كتابات الاستاذ شاكر – يمسك بيد القاريء في رفق لكي يعيد تكوينه
فكريا وذهنيا ويمحو آثار التلوث التعليمي والانحطاط الفكري في حياتنا الثقافية
التي وصفها شاكر في زمنه هو بالفاسدة ، ولا أدري ماذا كان يقول لو عاش إلى زمننا
هذا بعد 12 عاما من رحيله ؟ هل أستشهد بقول لبيد الشهير :
ذهب الذين يعاش في
أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب !
ولكن من الذي يعرف محمود شاكر من الأجيال الجديدة ،
وبالذات ممن تربوا في أحضان المجالس الثقافية الحكومية التي تغمرها – حتى تعمى
العيون - أنوار "المستنيرين" ؟! أو ممن يتلقون ثقافتنا من تلفاز الحكومة
الذي هو على الأنفاس راكب والمحتفي فقط بكل مطرب وراقصة ولاعب ؟!
انظروا ماذا قال الأديب الكبير الأستاذ وديع فلسطين عن
شاكر في رسالة له إلى صديق : " إن المرء لتعروه الدهشة إذ يرى هذه القمة
المسماة محمود محمد شاكر خافية عن عيون مجتمعه إلا فيما يسيء ، وقليلة على محمود
شاكر عضوية المجامع ،بل قليلة عليه جائزة التقدير ، ولكن لسان الحق الذي تنطق به
العدول من الخلف ، في إلحاح إلى إنصاف هذا العالم الأستاذ الذي يجلس في محضره
أكابر الباحثين وكأنهم من تلاميذه النجباء ، ويطمع كل منهم أن يحسب في عداد
حوارييه".
رحم الله الأستاذ العلامة محمود شاكر ، أبا فهر ، صاحب
"أباطيل وأسمار" و"المتنبي" ، ومحقق "تفسير الطبري"
وصاحب القصيدة الفذة "القوس العذراء" ، وعضو مجمع اللغة العربية
(1327-1418/1909-1997)، نجل الشيخ الجليل محمد شاكر وكيل الجامع الأزهر سابقا
(1282-1358/1866-1939) وشقيق المحدث الكبير الشيخ أحمد شاكر ، أبي الاشبال وشمس
الأئمة وعضو المحكمة العليا الشرعية سابقا ومحقق المسند (1309-1377/1892-1958).
والأن ، وقد كثرت الأباطيل في حياتنا المعاصرة ، أفلا
نقول بملء الفم :
سلام عليك يا أبا فهر في ذكراك .. وعوضنا المولى عنك
خيرا ، فكم من أباطيل الآن ولاأبا فهر لها !
* كاتب وباحث
Mutazz_shukri@yahoo.com