بسم الله الرحمن الرحيم
عكا .. ولا "جزار" لها !
بقلم : معتز شكري
من وقت لآخر تقع أحداث بمدينة عكا ، يستقوي فيها السكان اليهود بدولتهم الصهيونية على سكانها العرب من مسلمين ومسيحيين ، وتهدأ الأحداث فترة لتثور من جديد في وقت آخر ، ولكن التوتر يبقى سيد الموقف مادام الظلم الواقع على إخوتنا في فلسطين مستمرا.
وكل ما يحدث في عكا وأتابعه في الأخبار ، سواء اشتباكات بين العرب والمستوطنين الذين سبق ترحيلهم من غزة وجاءت بهم سلطات الدولة اليهودية لتسكينهم في عكا ليكونوا شوكة في خاصرة سكانها العرب ، أو حتى بعض الأخبار السارة من قبيل الأنشطة العربية هناك للحفاظ على الهوية ، كل ذلك يذكرني بزيارتي لهذه المدينة في أواخر شهر ديسمبر 2006 ضمن مهمة صحفية لي في الأراضي الفلسطينية ، وزرت خلالها جامع أحمد باشا الجزار. وهو واحد من أكبر وأجمل مساجد فلسطين.
ولم يكن بالمسجد إلا القليل من مسلمي عكا البسطاء الطيبين القابضين على الجمر ، ومنهم شباب يبعث الأمل في مستقبل هذه الأمة بالرغم من كل الأهوال المحدقة بها ، وربما لايتسع المجال هنا لسرد ما سمعناه ورأيناه من قصص الاضطهاد والتمييز ونحن في المدينة من أهلها الفلسطينيين الأصلاء .
وعندما وقفنا لقراءة الفاتحة أمام قبر أحمد باشا الجزار (1734-1804م) قفز إلى خاطري كل ما حفظه لنا التاريخ عن أحمد باشا الجزار وبطولاته في الدفاع عن مدينة عكا واستبساله هو وأهلها في تحصينها لصد هجوم نابليون بونابرت عليها عام 1799.
الغريب أنني حاولت ، وأنا أسير في طرقات المدينة وأزور قلاعها وأتمشى على شاطئها ، أن أتخيل أو أتصور كيف استعصت على نابليون ، ومن أين جاءت تلك القوة والمنعة الأسطورية التي اشتهرت عنها – لدرجة ظهور المثل الشهير "يفتح عكا" ! - ولكنني لم أستطع !
لا شيء في المدينة ذاتها عندما زرتها يشير إلى أية منعة تؤدي إلى قهر جيش نابليون بونابرت وانسحابه مهزوما ذليلا ! لا توجد عوامل جغرافية أو جيولوجية خاصة تجعلها بهذه المنعة.
ولكن عامل العقيدة تمثل آنذاك في احتشاد أهل عكا "المسلمين" لصد جيش من الغزاة "المسيحيين" لا فرق بينهم وبين الصليبيين بالأمس، فكان هناك دافع جهادي محرك لهم للمقاومة ، على خلاف نظرتهم لجيش إبراهيم باشا الذي تمكن من فتح عكا بسهولة بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة ، لأنه مسلم مثلهم وقادم من بلد مسلم مثل بلادهم ، فالأمر إذن أمر خلافات سياسية بين مسلمين بعيدا عن تهديد العقيدة نفسها ، ولم تكن النعرة القومية أو الوطنية قد ظهرت وقتها كما هي الآن.
كذلك كانت عدالة السماء تقضي بشيء من القصاص السريع لمذبحة يافا ، وإن كان باقي القصاص من هذه الحادثة ومن غيرها قد نال بونابرت في مراحل لاحقة من حياته هزيمة ومرضا وغربة ، فجاء انكساره في عكا وهزيمته ومرارته جزاء وفاقا – أو قليلا معجلا من الجزاء الوفاق له – على مجزرة يافا البشعة.
ويلخص لنا عبد الرحمن الرافعي ما حدث في يافا ، فيقول
: " احتل الجيش الفرنسي العريش في 20 فبراير 1799 بعد أن هزم الجيش العثماني بها ، ثم تابع زحفه حتى وصل إلى يافا فحاصرها واستولى عليها في 7 مارس بعد معركة شديدة."
"وفي مدينة يافا ارتكب الجيش الفرنسي باعتراف المؤرخين الفرنسيين أنفسهم أبشع مأساة ستظل أبد الدهر وصمة عار في جبين فرنسا. فبالإضافة إلى أعمال النهب والقتل التي استمرت يومين كاملين ، فإن الفرنسيين أعدموا رميا بالرصاص ثلاثة آلاف أسير عثماني ، على الرغم مما نصت عليه شروط التسليم من ضمان أرواحهم "!
ولأن الشيء بالشيء يذكر ، فهل تجدون أي فارق بين مجزرة يافا هذه وأحداث الأمس القريب والبعيد عندما حصد الفرنسيون أرواح أكثر من مليون جزائري يدافعون عن حرية بلادهم (ضد الاستعمار والاستيطان) وعن هويتهم العربية (ضد الفرنسة) وعن عقيدتهم الإسلامية (ضد التنصير) خلال سبع سنوات فقط ، أي قرابة مائة وخمسين ألفا كل عام ، فكيف إذا أحصينا الشهداء خلال ال 132 سنة التي تشكل عمر القهر الفرنسي الاستيطاني المتعصب للجزائر (1830-1962) وكيف إذا أحصينا شهداء فلسطين على مدى قرن من قضيتها وليس فقط من نكبة 48 ؟!
وعندما نهى الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – عن التعرض بالقتل والإيذاء للنساء والأطفال والرهبان وغير المحاربين وللأسرى خلال الحرب كان يعلمنا احترام النفس البشرية. وعندما قام لجنازة يهودي مع استغراب من حوله وقال لهم معلما " أليست نفسا ؟!" كان يحترم النفس الإنسانية.
والآن عودة إلى عكا ، لنتذكر أن بطل موقعتها الذي حال دون أن يحقق بونابرت أحلامه في فتح الشرق كله كان هو أحمد باشا الجزار.
وهو الذي ذكر التاريخ – بجانب بطولاته العسكرية ودوره في صد غزوة بونابرت – أنه كان إداريا بارعا نجح في وقف تدهور الولايات التي كانت تابعة له وهي كل ديار الشام تقريبا على مدى قرابة ثلاثين عاما . ولكن التاريخ يذكر أيضا أنه كان مشهورا بتدبير المكائد والدسائس ، كما كان – وهو سبب هذا اللقب الذي غلب عليه - مستبدا ودمويا لدرجة أن بعض الأمهات والجدات في عكا حتى الآن يخوفن أطفالهن به وبسيرته إذا لم يسمعوا الكلام !
ونحن راضون أن يحكمنا الآن في بلدان العالم الإسلامي حكام مستبدون على شاكلة الجزار ( فنصيبنا من الاستبداد على ما يبدو مكفول لنا على أية حال!) ، شريطة أن يعدلوا في الاستبداد بيننا وبين أعدائنا وأعداء الأمة ويحفظوا لنا بلادنا ويحصنوها من هجماتهم.
ولأنه لم يعد الآن من هم على شاكلة صلاح الدين وقطز وقلاوون وعبد الحميد الثاني وأحمد باشا الجزار (الذين نعترف بأنهم لم يكونوا ملائكة ولا حكاما مثاليين ولكنهم كانوا ينقلبون أسودا ضواري في وجه أعداء الأمة) فقد سقطت عكا بسهولة في 1948 عندما اغتصبها اليهود حتى بعد أن جعلها قرار التقسيم في القسم العربي من فلسطين ، وإذا كانت الأدبيات المأثورة تقول : " ردة ولا أبا بكر لها " ، و"قضية ولا أبا حسن لها " ، أفلا نقول ونحن نتعاطف من بعيد مع أهلنا في عكا دون أن نفعل شيئا ذا بال لهم وهم يواجهون التمييز والاضطهاد والقهر وهم في عقر دارهم : "معذرة يا أهلنا ، فعكا الآن لا جزار لها " !
معتز شكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق